المتابعون

whatsapp

بحث هذه المدونة الإلكترونية

Translate

زائر

خطبةٌ بعنوان: عبودية الكائنات الشيخ د. عبدالمحسن القاسم إمام وخطيب المسجد النبوي الشريف

                   


إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد :

فاتقوا الله - عباد الله - حقَّ التقوى؛ فمن اتَّقى ربَّه ارتقَى درجات، وطابَ مآلُه بعد الممات.

أيها المسلمون :
اتَّصفَ الله تعالى بصفات الكمال والجمال، وتنزَّه من كل عيبٍ ونقصٍ، هو غنيٌّ عما سِواه من المخلوقات وهي مُفتقِرةٌ إليه، قال - سبحانه -: إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [إبراهيم: 8].
وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [آل عمران: 83
دانَ الجميعُ لله، فمن في السماوات والأرض والطير كلُّها تُصلِّي لله وتعبُد (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ [النور
والملائكةُ تدخل البيتَ المعمور في السماء كل تُصلِّي فيه لله، قال - عليه الصلاة والسلام - في حديث الإسراء: «فرُفِع لي البيتُ المعمور، فسألتُ جبريلَ، فقال: هذا البيتُ المعمورُ يُصلِّي فيه كل يومٍ سبعون ألف ملَك إذا خرَجوا لم يعودوا إليه آخرَ ما عليهم»؛ متفق عليه.
وجميعُ الكائنات تسجُد خاضِعةً ذليلةً لله، قال - عز وجل -: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ [الحج: 18].

والدوابُّ والملائكةُ تسجُد خوفًا من الله، قال تعالى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [النحل: 49، 50].
والشمسُ تذهبُ كل يومٍ تحت العرش وتسجُد لله، قال - عليه الصلاة والسلام لأبي ذرٍّ حين غربَت الشمسُ: «أتدرِي أين تذهب؟». قلتُ: الله ورسولُه أعلم. قال: «فإنها تذهبُ حتى تسجُد تحت العرش»؛ متفق عليه.

ومع صلاة المخلوقات لله وسُجودهم له فإنهم يُسبِّحونه، قال تعالى: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ [الإسراء: 44].

الرعد يُسبِّح بحمده وجلاً منه (ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته) ، والنملُ يُقدِّسُ الله ويُنزِّهُه عن الشريك والمثيل، قال - عليه الصلاة والسلام -: «قرصَت نملةٌ نبيًّا من الأنبياء، فأمرَ بقريةِ النمل فأُحرِقَت، فأوحَى الله إليه: أن قرصَتك نملةٌ فأحرقتَ أمةً من الأمم تُسبِّح؟!»؛ متفق عليه.

والنباتُ يُسبِّح الله وحده، قال ابن القيم - رحمه الله -: "فتبارك الله ربُّ العالمين الذي يعلمُ مساقِط تلك الأوراق ومنابِتها، فلا تخرجُ منها ورقةٌ إلا بإذنه، ولا تسقُط إلا بعلمِه، ومع هذا فلو شاهَدَها العبادُ على كثرتها وتنوُّعها وهي تُسبِّح بحمد ربِّها مع الثمار والأفنان والأشجار لشاهَدوا من جمالِها أمرًا آخر، ولرأوا خِلقتَها بعينٍ أخرى، ولعلِموا أنها لشأنٍ عظيمٍ خُلِقَت".

وكان الصحابةُ - رضي الله عنهم - وهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يسمَعون تسبيحَ الطعام، قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: "ولقد كُنَّا نسمعُ تسبيحَ الطعام وهو يُؤكَل"؛ رواه البخاري.

وكلُّ ذرَّةٍ في الكون تُوحِّدُ الله، قال الله تبارك وتعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء: 44].
قال ابن كثيرٍ - رحمه الله -: "وهذا عامٌّ في الحيوانات والجمادات والنباتات".
وكيفيةُ التسبيح لا يعلمُها إلا الله، قال - عز وجل -: وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء: 44].
ومع تسبيحِ الحجارة لله تهبِطُ من علوِّها خشيةً لله خاضعةً مُنكسِرةً له، قال - عز وجل -: وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [البقرة: 74].

والسماءُ والأرضُ مُطيعةٌ لله مُمتثلةٌ أمرَه، قال لهما: استجِيبَا لأمري طائعتَين أو مُكرهتَين قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [فصلت: 11].

والجمادات تحبُّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانت تُسلِّم عليه في حياته، قال - عليه الصلاة والسلام -: «إني لأعرفُ حجرًا بمكّة كان يُسلِّم عليَّ قبل أن أُبعَث، إني لأعرفُه الآن»؛ رواه مسلم.

وجِذعُ نخلةٍ فارقَه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فحنَّ له الجِذعُ وبكى؛ قال جابرٌ - رضي الله عنه -: "كان المسجدُ مسقوفًا على جُذوعٍ من نخلٍ، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خطبَ يقومُ إلى جِذعٍ منها، فلما صُنِع له المنبر وكان عليه - أي: وتركَ الجِذع -. قال: سمِعنا لذلك الجِذع صوتًا كصوتِ العِشار - أي: النُّوق الحوامِل - حتى جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فوضعَ يدَه عليها فسكنَت"؛ رواه البخاري.
وكان الحسنُ البصريُّ - رحمه الله - إذا حدَّث بهذا الحديث يقول: "يا معشر المسلمين! الخشبةُ تحِنُّ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شوقًا إلى لقائِه، فأنتم أحقّ أن تشتاقوا إليه".

بل اهتزَّ جبلٌ بأكمله لما صعِدَه النبي - صلى الله عليه وسلم - مع خلفاء راشِدين، قال أنسٌ - رضي الله عنه -: صعِد النبي - صلى الله عليه وسلم - أُحُدًا ومعه أبو بكرٍ وعُمر وعُثمان، فرجَفَ بهم، فضربَه برِجلِه، قال: «اثبُت أُحُد، فما عليك إلا نبيٌّ أو صِدِّيقٌ أو شهِيدان»؛ رواه البخاري.
قال ابن المُنيِّر - رحمه الله -: "وهذه هزَّةُ الطرَب، ولهذا نصَّ على مقام النبُوَّة والصدِّيقيَّة والشهادة التي تُوجِبُ سُرورَ ما اتَّصَلت به".
قال - عليه الصلاة والسلام -: «أُحُدٌ جبلٌ يُحبُّنا ونُحبُّه»؛ رواه البخاري.

وكان عند آل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيوانٌ وحشيٌّ إذا دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - بيتَه لم يتحرَّك الحيوان لئلا يُؤذِي النبي - صلى الله عليه وسلم -.

قالت عائشة - رضي الله عنها -: "كان لآل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحشٌ، فإذا خرجَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لعبَ واشتدَّ وأقبلَ وأدبرَ، فإذا أحسَّ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد دخلَ ربضَ - أي: جلسَ - فلم يترمرَم - أي: لم يتحرَّك - ما دامَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في البيت كراهيةَ أن يُؤذِيَه"؛ رواه أحمد ، قال ابن كثير : إسناده على شرط الصحيح.

وتبكِي السماءُ والأرضُ حُزنًا على فراقِ المؤمن، قال الله سبحانه وتعالى عن قوم فرعون: فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ [الدخان: 29].
قال ابن عباس - رضي الله عنه -: "إذا فقدَ المؤمنُ مُصلاَّه من الأرض التي كان يُصلِّي فيها ويذكُر الله فيها بكَت عليه السماءُ والأرض".

وأما العُصاةُ فإن المخلوقات تتأذَّى منهم، وإذا ماتوا استراحَت منهم؛ مُرَّ على النبي - صلى الله عليه وسلم - بجنازةٍ فقال: «مُستريحٌ ومُستراحٌ منه». قالوا يا رسول الله! ما المُستريحُ والمُستراحُ منه؟ قال: «العبدُ المؤمنُ يستريحُ من نصَب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله، والعبادُ الفاجرُ يستريحُ منه البلاد والعباد والشجرُ والدوابُّ»؛ متفق عليه.

والشركُ بالله أعظمُ الذنوب، وإذا سمعَت الجمادات شركًا به تعالى فزِعَت عظمةً لله لانتِقاص حقِّه في الألوهية، قال - سبحانه -: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا [مريم: 88- 90].
قال ابن كثيرٍ - رحمه الله -: "أي: يكادُ يكونُ ذلك عند سماعِهنَّ هذه المقالة من فجَرة بني آدم إعظامًا للربِّ وإجلالاً؛ لأنهم مخلوقاتٌ ومُؤسَّساتٌ على توحيده".

وبعد، أيها المسلمون:
فالكلُّ من الملائكة والجمادات والنباتات والحيوانات نطقَ بتنزيه الله وتوحيده، وسجدَ لله وأطاعَه، وحقيقٌ ببني آدم أن يكون كذلك.
وإذا حقَّق الإنسانُ العبوديةَ كان أشرفَ المخلوقات، ومن أشركَ به كانت الدوابُّ أتمَّ منه، قال - سبحانه -: أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الأعراف: 179].

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر: 67].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، أقول ما تسمَعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المُسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفِروه.


الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقِهِ وامتِنانِه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنِه، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلَّم تسليمًا مزيدًا.

أيها المسلمون:
المخلوقاتُ ذليلةٌ لله قانتةٌ له، ويحرُم أن يُدعَى شيءٌ منها من دون الله، قال - سبحانه -: لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [فصلت: 37].
ومع قُنوتها لله فهي مُسخَّرةٌ لنا لنستعينَ بها على طاعته، قال - عز وجل -: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ [الجاثية: 13].

ومن أطاعَ ربَّه رفعَه الله وأعلى مكانته.
ثم اعلموا أن الله أمرَكم بالصلاةِ والسلامِ على نبيِّه، فقال في مُحكَم التنزيل: إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الذِيْنَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيْمًا

اللَّهمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبراهيم وعلى آل إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
وبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إبراهيم وعلى آل إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حميد مجيد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

شاهذ أيضاً